فصل: النوع السابع عشر: مداواة الأمراض والتمريض والرفاد نحوه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الذخيرة في فروع المالكية ***


النوع السادس‏:‏ في السفر

وفي الجواهر هو طلب وهرب، فالهرب الخروج من دار الحرب إلى الإسلام، أو من دار البدعة، أو من أرض غلب عليها الحرام، والفرار من الأذية في البدن كخروج الخليل عليه السلام والخروج من أرضه النقمة، أو الخروج خوفا على الأهل والمال؛ لأنه حرمة المال كحرمة النفس‏.‏

وسفر الطلب سفر العمرة مندوب، وسفر الحج فرض، وسفر الجهاد إذا تعين، وإلا فله حكمه، وسفر المعاش كالاحتطاب والاحتشاس والصيد والتجارة والكسب، والسفر لقصد البقاع الكريمة كأحد المساجد الثلاثة ومواضع الرباط، والسفر لقصد طلب العلم، والسفر لتفقد أحوال الإخوان‏.‏

ثم من آداب السفر إذا وضع رجله في الركاب أو الغرز أو شرع في السفر قال‏:‏ باسم الله، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم ازو لنا الأرض وهون علينا السفر، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر ومن كآبة المنقلب ومن سوء المنظر في المال والأهل، ولينظر في الرفيق، ففي الحديث‏:‏ الراكب شيطان، والراكبان شيطانان والثلاثة ركب، وهو أقل الرفقة، بحيث إذا ذهب واحد يحتطب أو يستقي بقي اثنان يستحي أحدهما من الآخر، وقد جاء خير الرفقاء أربعة، وإن كانت معهم امرأة فلا يحل لها السفر إلا برفيق وهو إما زوج أو محرم، فإن عدمتهما واضطرت كالحج المفروض ونحوه فنساء مأمونات أو رجال مأمونون لا يتخشى على نفسها معهم، لقوله عليه السلام‏:‏ لا يحل لامرأة تؤمن بالله اليوم الآخر أن تسافر يوما وليلة إلا مع ذي محرم، ولا يعلق المسافر الأجراس، ولا يقلد الأوتار للدواب، لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وهو مكروه، ويستحب للمسافر الرفق بدوابه وإنزالها منازلها في الخصب والنجاة عليها بنقيها في الجذب، وفي الموطأ قال عليه السلام‏:‏ إن الله رفيق يحب الرفق ويرضى به ويعين

عليه، ولا يعين على العنف، فإذا ركبتم هذه الدواب العجم فأنزلوها منازلها، فإن كانت الأرض مجذبة فانجوا عليها بنقيها، وعليكم بسير الليل فإن الأرض تطوى بالليل ما لا تطوى بالنهار، وإياكم والتعريس على الطريق فإنها طريق الدواب ومأوى الحيات‏.‏ وفي المنتقى قال مالك‏:‏ لا بأس بسرعة السير في الحج على الدواب، وأكره المهاميز ولا يصلح الفساد، وإذا كثر ذلك خوفها، وقد قال‏:‏ لا بأس أن ينخسها حتى يدميها‏.‏

وقوله‏:‏ العجم، أي‏:‏ لا تتكلم، وكل ما لا يقدر على الكلام فهو أعجمي‏.‏

وقوله‏:‏ منازلها أي ما فيه مصالحها، تقول‏:‏ أنزلت فلانا منزلته أي عاملته بما يليق، وقوله‏:‏ انجوا عليها أي أسرعوا من النجاة وهو السرعة، أو من النجاة قبل أن يعطبوا، والنقي الشحم‏.‏

وفي الجواهر‏:‏ يقول إذا نزل منزلا‏:‏ أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لأمره عليه السلام بذلك في مسلم، فقد ضمن عدم الضرر بها، قال القاضي أبو بكر‏:‏ لقد جربتها أحد عشر عاما فوجدتها كذلك‏.‏

وأن يعجل الرجوع إلى الأهل إذا قضى نهمته من سفره لحق أهله عليه، وأن يدخل نهارا، وأن لا يأتي أهله طروقا كما جاء في الحديث ولا بأس بالإسراع في السير وطي المنازل فيه عند الحاجة، فقد سار ابن عمر وسعيد بن أبي هند وكان من خيار الناس من مكة إلى المدينة في ثلاثة أيام، وهي مسيرة عشرة أيام‏.‏

فرع‏:‏

قال‏:‏ ولا يسافر بالقرآن إلى أرض العدو لقوله عليه السلام‏:‏ لا يسافر بالقرآن إلى أرض العدو‏.‏ وفي المقدمات‏:‏ ويجوز إن كتب لهم بالآية والآيتين إذا كان الغرض الدعاء إلى الإسلام، كما كتب عليه السلام إلى هرقل‏:‏ ‏"‏بسم الله الرحمن الرحيم قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم‏"‏ الآيات‏.‏

فرع‏:‏

في البيان‏:‏ قال‏:‏ اختلف في السفر الذي لا يجوز للمرأة إلا مع ذي محرم، قيل‏:‏ البريد، وقيل‏:‏ اليوم، وقيل‏:‏ يوم وليلة، وقيل‏:‏ ليلتان، وقيل‏:‏ ثلاثة أيام وأتت بذلك كله الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ يمنع وإن قرب جدا إلا مع محرم‏.‏

النوع السابع‏:‏ الفطرة

في الجواهر‏:‏ ما يفعله الإنسان في رأسه وجسده، وهي خصال الفطرة، خمس في الرأس‏:‏ المضمضة، والاستنشاق، وقص إطار الشارب وحلقه مثلة، وإعفاء اللحية إلا أن تطول جدا فله الأخذ منها، وفرق الشعر، وخمس في الجسد‏:‏ حلق العانة، ونتف الإبطين، وتقليم الأظافر، والاستنجاء، والختان، وهو سنة في الرجال مكرمة في النساء، ويستحب ختان الصبي إذا أمر بالصلاة من السبع إلى العشر، ويكره أن يختن في السابع؛ لأنها عادة اليهود، فإن خاف الكبير على نفسه التلف رخص له ابن عبد الحكم في تركه، وأبى ذلك سحنون، واختلف فيمن ولد مختونا، فقيل‏:‏ كفته مؤنته، وقيل‏:‏ يجرى الموسى عليه، وإن كان فيها ما يقطع قطع‏.‏

وبقاء شعر الرأس زينة، وحلقه بدعة؛ لأنها شعار الخوارج، ويجوز أن يتخذ جمة، وهي ما أحاط بمنابت الشعر، ووفرة وهو أن يقطع ما زاد على ذلك حتى يبلغ شحمة أذنيه، ويجوز أن يكون أطول من ذلك، ففي الصحيح كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قص شعره بلغ به شحمة أذنيه، فإذا تركه قارب منكبيه، وكان شعره فوق الجمة ودون الوفرة، ويكره القزع أن يحلق البعض ويترك البعض تشبها بقزع السحاب، وقال أبو عبيدة‏:‏ يتخصص القزع بتعدد مواضع الحلق حتى تتعدد مواضع الشعر فتحصل المشابهة، وكذلك قال مالك‏:‏ القزع أن يترك شعرا متفرقا في رأسه، وفي المقدمات والجلاب وابن يونس‏:‏ ‏(‏ورد في الحديث أحفوا الشارب‏)‏ وقصوا الشارب فيكون القص مبينا للإحفاء، وكان ابن القاسم يكره أن يؤخذ من

أعلاه، وتترك اللحية لما في بعض الأخبار‏:‏ إن لله ملائكة يقولون سبحان من زين بني آدم باللحى، وماعدا ذلك نظافه وجاءت به الآثار‏.‏

والختان سنة إبراهيم - عليه السلام - هو أول من اختتن، قيل‏:‏ وهو ابن ثمانين، وقيل‏:‏ مائة وعشرين وعاش بعده ثمانين، روي الأمران عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن ابن عباس لا تؤكل ذبيحة الأغلف، ولا تقبل صلاته، وترد شهادته، وعن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا يحج البيت حتى يختتن وفي الموطأ قال عليه السلام‏:‏ خمس من الفطرة، قال في المنتقى‏:‏ الفطرة الدين، أي‏:‏ من الدين، كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏فطرة الله التي فطر الناس عليها‏"‏ ومنه قوله عليه السلام‏:‏ كل مولود يولد على الفطرة‏.‏

قلت‏:‏ قال بعض العلماء‏:‏ حمل الفطرة على التهيؤ أحسن، أي‏:‏ خلق الإنسان على حالة لو خلي وإياها لكان موحدا، وإنما العوائد تمنع، ووجه الترجيح‏:‏ أن القضاء على أولاد الكفار بأحكام الكفر من الاسترقاق وغيره مع حصول الإيمان الفعلى خلاف القواعد، وأيضا فإنا نقطع أن الطفل يتعذر في مجاري العادات أنه عارف بالله تعالى، فلا يمكن أن يكون ولد على الفطرة إلا بمعنى التهيؤ والقبول‏.‏

قال في المنتقى‏:‏ وقص الشارب عند مالك حتى يبدو طرف الشفة، وليس لقص الشارب والأظفار حد إذا انقضى أعاد، بل إذا طال، وكذلك شعر الرأس، ووافق ‏(‏ح‏)‏ مالكا في أن الختان سنة؛ لأنه عليه السلام قرنه بقص الشارب ونتف الإبط فقال في الموطأ‏:‏ خمس من الفطرة‏:‏ تقليم الأظافر، وقص الشارب، ونتف الإبط، وحلق العانة، والاختتان‏.‏ ولا خلاف أن هذه ليست واجبة، ولأنه قطع جزء من الجسد كقص الظفر، وقال ‏(‏ش‏)‏‏:‏ واجب، وهو مقتضى قول سحنون لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏أن اتبع ملة إبراهيم‏"‏ قال ابن عباس، وقوله تعالى ‏"‏ وإذا ابتلى إبراهيم ربه

بكلمات ‏"‏ هي الفطرة، خمس في الرأس، وخمس في الجسد، وهي ما تقدمت، وقال عليه السلام لرجل أسلم‏:‏ ألق عنك شعر الكفر واختتن‏.‏ والأمر للوجوب، وقال عليه السلام‏:‏ ما تقدمت‏.‏ وقال عليه السلام‏:‏ لأم عطية وكانت تختن النساء في المدينة‏:‏ أشمي ولا تنهكي فإنه أسرى للوجه وأحظى عند الزوج‏.‏ أي‏:‏ يحسن وجهها بلونه بظهور الدم، وجماعها بهيئته، ولأنه قطع عضو مأذون فكان واجبا كقطع السرقة، أو لأنه قطع يؤلم فلا يقطع إلا واجبا كاليد في السرقة، ولأن الولي لو قطع العزلة أو أجنبي فمات الصبي لم يضمناها، ولو لم يكن واجبا لضمناها‏.‏

والجواب عن الأول‏:‏ أن المراد بالملة أصل الشريعة دون فروعها للمخالفة في الفروع في كثير من الصور‏.‏

والجواب عن الثاني‏:‏ أن إلقاء الشعر ليس بواجب فكذلك الختان‏.‏

والجوب عن الثالث‏:‏ أن أمره عليه السلام لأم عطية إنما كان لبيان الهيئة لا لبيان الوجوب‏.‏

والجواب عن الرابع‏:‏ يبطل بالفصاد فإنه لو مات منه لم يضمن، ثم المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ الختان سنة في الرجال مكرمة في النساء، أو لأنه قطع مؤلم فلا يجب كالسرة عند الولادة‏.‏

والجواب عن الخامس‏:‏ أن المداوة تكشف لها العورة وليست بواجبه، وفي المنتقى عن مالك‏:‏ من ترك الختان من غير عذر لم تجز إمامته ولا شهادته؛ لأنه ترك المروءة وهي تقدم فيهما، وتأخيره في الصبي بعد الإثغار أحب لمالك؛ لأنه عبادة فتؤخر لوقت الأمر بالعبادات حتى يمكن أن يؤخر الصبي بقصد ذلك‏.‏

فرع‏:‏

قال في المنتقى قال مالك‏:‏ إذا ابتاع أمة خفضها إذا أراد حبسها وإن كانت

للبيع فليس ذلك عليه، والنساء يخفضن الجواري، واختتن إبراهيم عليه السلام بالقدوم، وهو موضع ويخفف فيقال‏:‏ القدوم، اختلف فيه هل هو الموضع أو الآلة التي ينجر بها فقيل‏:‏ المخفف الآلة، والمشدد الموضع، وقيل‏:‏ بالعكس، والصحيح‏:‏ أن المشدد الموضع‏.‏

قال صاحب القبس‏:‏ والمراد بالفطرة هاهنا من الدين ما يكون الإنسان به على أكمل الهيئات، وخرجها مسلم عشرا وخصها عليه السلام لتلقيها موسى عن ربه، قال‏:‏ وعندي أن جميعها واجب، وأن الرجل لو تركها لم يكن من جملة الآدميين فكيف من جملة المسلمين‏.‏

قال الطرطوشي‏:‏ خفض المرأة قطع الناتيء أعلا فرجها كأنه عرف الديك، ويقال أعدر الرجل وخفضت المرأة فهي مخفوضة، قال ابن أبي زيد‏:‏ قيل لمالك‏:‏ إذا طالت اللحية جدا أيأخذ منها‏؟‏ قال نعم، قيل‏:‏ له أينتف الشيب‏؟‏ قال‏:‏ ما أعلمه حراما، وتركه أحب إلى، وكره للمرأة أن تفتل من شعرها قيدا فتدفعه للمرابطين، وقال‏:‏ دفن الشعر والأظفار بدعة، وكان من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلنسوة خالد بن الوليد، وكراهة إلقاء الدم على وجه الأرض، وإلقاؤه في المراحيض بدعة، بل يطرح على وجه الأرض، وقال‏:‏ ما سمعت في الصبغ بالسواد شيئا، وغيره أحب إلي، والصبع بالحناء والكتم واسع، قال مالك‏:‏ والدليل على أن رسول الله عليه وسلم لم يصبغ أن عائشة رضي الله عنها أمرت بالصبغ وقالت‏:‏ كان أبو بكر يصبغ، ولو كان عليه السلام يصبغ لبدأت به دون أبيها‏.‏

قال ابن يونس‏:‏ من أحفى شاربه يوجع ضربا؛ لأنها بدعة، وإنما المراد بالإحفاء في الحديث إحفاء الإطار وهي أطراف الشعر، وكان عمر رضي الله عنه يفتل شارب إذا أكربه أمر، ولو كان محلوقا ما وجد ما يفتله، وكره حلق مواضع المحاجم في القفا والرأس من غير تحريم، قال صاحب البيان‏:‏ اتفقوا على جواز تغيير الشيب بالصفرة والحناء والكتم، وإنما اختلفوا هل تركه أفضل، وهو ظاهر قول مالك في العتبية، وظاهر الموطأ عنه الصبغ أحسن لقوله عليه السلام‏:‏ إن

اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم، وكان مالك لا يخضب وقال له بعض ولاة المدينة‏:‏ ألا تخضب‏؟‏ فقال له‏:‏ ما بقي عليك من العدل إلا أن أخضب، وكان الشافعي أعجله الشيب فكان يخضبه، وكره السواد جماعة من العلماء؛ لأن أبا قحافة جيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وكأن رأسه ثغمة، فقال عليه السلام‏:‏ اذهبوا به إلى بعض نسائه فغيروه وجنبوه السواد، وقال سعيد ابن جبير‏:‏ يكسو الله العبد في وجهه النور فيطفئه بالسواد، وخضب به الحسن والحسين ومحمد بنو علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، وكان عقبة بن عامر منهم ينشد‏:‏

نسود أعلاها وتأبى أصولها ولا خير في فرع إذا فسد الأصل

وكان هشيم يخضب بالسواد فسئل عن قوله تعالى‏:‏ ‏"‏وجاءكم النذير‏"‏ فقال‏:‏ الشيب، فقال السائل‏:‏ فما تقول فيمن جاءه النذير من ربه فسود وجهه‏؟‏ فترك الخضاب، وكره مالك حلق وسط الرأس وحده؛ لأن أساقفة النصارى يفعلون كذلك، وكذلك حلق القفا لفعل النصارى‏.‏

وقال ‏(‏ش‏)‏ و‏(‏ح‏)‏ وأحمد‏:‏ إحفاء الشوارب أفضل، وحملوا الحديث على ظاهره، ويرد عليهم قوله عليه السلام من لم يأخذ من شاربه فليس منا، والجمع بين الأحاديث أولى، ولأنه العمل المتصل بالمدينة، وحلاق الصبي قصا وقفا أن يحلق رأسه ويبقى مقدمه مفتوحا على وجهه ومؤخره مسدولا على قفاه، وحلاقه قصه بلا قفا أن يحلق وسط رأسه إلى قفاه ويبقى مقدمه معقوصا، وكله يكره؛ لأنه من القزع‏.‏

وكان أهل الكتاب يسدلون والمشركون يفرقون شعرهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه فيه شيء، فسدل ناصيته، ثم

فرق بعد، وقال الطحاوي‏:‏ حلق الرأس أفضل؛ لأن أبا وائل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقد جز شعره، فقال له‏:‏ هذا أحسن، وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وما صار إليه أولى، واتفقوا أن جز المرأة شعر رأسها مثلة‏.‏

النوع الثامن‏:‏ اللعب بالنرد ونحوه

ففي الجواهر‏:‏ اللعب بالنرد حرام، وقاله الأئمة لقوله عليه السلام‏:‏ من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير، والشطرنج وما يضاهيها كالأربعة عشر ونحوها فالنص على كراهتها، واختلف في حمله على التحريم، وهو قول ‏(‏ح‏)‏ وأحمد، أو إجزائه على ظاهره، وهو قول ‏(‏ش‏)‏، قال مالك‏:‏ وهي ألهى من النرد وأشر؛ لأن النرد نصفه اتفاق وهو إلقاء الفصوص ونصفه فكر وهو نقل الأشخاص في البيوت؛ والشطرنج فكر كله، فكان ألهى، وقيل‏:‏ الإدمان عليه حرام، وقيل‏:‏ إن لعبت على وجه يقدح في المروءة كلعبها على الطريق مع الأوباش حرمت لمنافاة المروءة، أو في الخلوة مع الأمثال من غير إدمان ولا في حال يلهي على العبادات والمهمات الدينية أبيحت؛ لأن جماعة من السلف كانوا يلعبونها‏.‏

وفي المقدمات أما مع القمار فحرام اتفاقا؛ لأنه من الميسر، قال‏:‏ والشطرنج مثل النرد؛ لأنها تلهي، وإدمانها يقدح في الشهادة والعدالة؛ لأنه يؤدي إلى القمار والأيمان الكاذبة والاشتغال عن العبادة، وفي الموطأ قال عليه السلام‏:‏ من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله، قال الباجي‏:‏ وماروي عن عبد الله بن مغفل والشعبي وعكرمة أنهم كانوا يلعبون بالنرد والشطرنج غير ثابت، ولو ثبت حمل على أنه لم يبلغهم النهي وأغفلوا النظر وأخطأوا، وروى سعيد بن المسيب وابن شهاب إجازة النرد، وهو كما تقدم، وكره مالك الجلوس مع اللاعب؛ لأن الجلوس يذكر المشاركة، وفي القبس‏:‏ الشطرنج أخو النرد وما مسته يد تقي قط، وسمعت بالمسجد الأقصى الإمام أبا الفضل المقدسي يقول‏:‏ إنما يتعلم

للحرب، قال له الطرطوشي‏:‏ بل تفسد الحرب؛ لأن الحرب مقصوده أخذ الملك واغتياله، وفي الشطرنج يقول له شاه أتاك الملك نحه عن طريقي، فضحك الحاضرون، وتحريمها هو الأصح من قولي مالك‏.‏

قال صاحب البيان‏:‏ لم ير مالك ترك السلام على لاعب الكعاب والشطرنج والنرد إلا أن يمر بهم يلعبون فيجب الإعراض عنهم وترك السلام أدبا لهم، قال الطرطوشي‏:‏ ‏(‏إن لم يعقل للنرد معنى فهو مساو للشطرنج، وإن عقل فجميع ما يتخيل فيه من اللهو وغيره‏)‏ فهو أعظم في الشطرنج، وقال أبو إسحاق الشيرازي‏:‏ الشطرنج يقوي الفكر ويجبر الخاطر ويتعلم به القتال والكر والفر والهرب والطلب، فهو يقوي الرأي والعقل بخلاف النرد، وجوابه أنه ليس من قبيل العلوم التي محلها القلب، بل من الصنائع التي محلها الجوارح كالكتابة والنجارة، ولذلك أعلم الناس به تجدهم بلداء كما تجد البليد قد يكتب حسنا وينجر حسنا، وأما احتياجه لمزيد الفكر فهو يقربه من اللهو أكثر من النرد، وإنما يكون إتعاب النفس أفضل في الأمور المطلوبة للشرع، ويدل على ذلك أنكم تكرهونه فلا يكون مطلوبا، والمخاطرة عليه حرام، مع أن الفكر حينئذ أشد، فكان ينبغي أن يكون أقرب للإباحة، ألا ترى أن المسابقة على الخيل لما كانت مطلوبة كان بذل المال فيها جائزا، فهي بعيدة من مكايد الحروب؛ لأن الحروب مبنية على اقتناص الملوك والوزراء وأن الفارس يكر ويفر ويقبل كيف أراد، ويقتل القريب والبعيد والمقاتل وغيره، والشطرنج يؤمر فيه بتهريب السلطان بقولهم‏:‏ شاه حتى لا يقتل، والفارس لا يقتل من يليه ولا من يقابله وإنما يأخذ على موازيه، وكل قطعة منه لا تشبه صاحبتها في الكر والفر، فلو ذهب متعلم الشطرنج دهرا إلى الحرب وقال وفعل ذلك وقال‏:‏ هذا تعلمته من الشطرنج أفسد الحرب وضحك منه، ولا يحصل الشطرنج إلا بمخالطة الأرذال وإغفال الصلوات وضياع الأموال‏.‏

قال مالك‏:‏ أول ما وضع الشطرنج لامرأة ملكة قتل ابنها في الحرب، فخافوا إخبارها بذلك فوضعوه ولعبوا به عندها حتى يقولوا شاه مات، أي الرئيس مات؛ لأن شاه بالفارسية الرئيس، فاستدلت بذلك على قتله‏.‏

‏(‏وما يرونه من أن أبا هريرة وسعيد بن المسيب وزين العبادين كانوا يلعبونها وأن سعيد بن جبير كان يلعبها غايبا‏)‏ فأحاديث لا أصل لها من أحاديث الكوفة، وكان مالك يسميها دار الضرب، وكيف وسعيد بن المسيب وغيره من أهل المدينة مقيمون بها ولم ينقل أهل المدينة عنهم ذلك، فيقطع ببطلان ما قاله الكوفيون، وهي لهو ولعب، وقد ذم الله تعالى اللهو واللعب، وحديث النرد متفق على صحته فيعتمد على الصحيح ويترك غيره والله أعلم‏.‏

النوع التاسع‏:‏ التصوير

في المقدمات‏:‏ لا يجوز عمل التماثيل على صورة الإنسان أو شيء من الحيوان، لقوله عليه السلام‏:‏ إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم‏.‏ وقوله عليه السلام‏:‏ إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه تماثيل‏.‏ والمحرم من ذلك بإجماع ماله ظل قائم على صفة ما يحيى من الحيوان، وما سوى ذلك من الرسوم في الحيطان، والرقوم في الستور التي تنشر، أو البسط التي تفرش، أو الوسائد التي يرتفق بها مكروهة وليس بحرام في صحيح الأقوال، لتعارض الآثار، والتعارض شبهة، وفيها أربعة أقوال‏:‏ يحرم الجميع مرسوم في حائط أو ستر أو غيره، وإباحة الجميع، وإباحة غير المرسوم في الحيطان والرقوم في الستر التي تعلق ولا تمتهن بالبسط والجلوس عليها، والذي يباح للعب الجواري به ما كان غير تام الخلقة لا يحيى ما كان صورته في العادة، كالعظام التي يعمل لها وجوه بالرسم، كالتصوير في الحائط، وقال أصبغ الذي يباح ما يسرع له البلا، قال في

البيان‏:‏ وإنما استخف الرقوم في الثياب؛ لأنها رسوم لا أجساد لها ‏(‏ولا‏)‏ ظل شبه الحيوان ولا يحيى في العادة من هو هكذا، والحديث دل على ما يمكن له روح‏:‏ فيقال لهم‏:‏ أحيوا ما خلقتم، وجاز لعب الجواري بهذه الصور الناقصة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم بلعب عائشة رضي الله عنها بها وبسيرها إليها، فيجوز عملها وبيعها؛ لأن في ذلك تهذيب طباع النساء من صغرهن على تربية الأولاد، كما ألهم كل نبي في صغره رعاية الغنم ليتعود على سياسة الناس؛ لأنه في الغنم يمنع قويها عن ضعيفها ويسير بسير أدناها ويرفق بصغارها، ويلم شعثها في سقيها ومرعاها، وكذلك يفعل بأمته عند نبوته‏.‏

النوع العاشر‏:‏ وشم الدواب وخصاؤها

وفي المقدمات‏:‏ يجوز خصاء الغنم دون الخيل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن خصاء الخيل وضحى بكبشين أملحين ‏(‏مجبوبين‏)‏؛ لأن الغنم تراد للأكل وخصاؤها لا يمنع من ذلك، وربما حسنه، والخيل تراد للركوب والجهاد، وهو ينقص قوتها ويقطع نسلها‏.‏

ويكره وسم الحيوان في الوجه؛ لأنه مثلة وتشويه، ويجوز في غيره لما يحتاج الناس إليه من علامات مواشيهم ودوابهم، وتوسم الغنم في أذنابها لتعذره في أجسادها؛ لأنه يغيب بالصوف، قال ابن يونس من له سمة قديمة فأراد غيره أن يحدث مثلها منع خوف اللبس‏.‏

ويكره خصاء الخيل دون البغال والحمير وغيرها، وإذا كلب الفرس وخبث فلا بأس أن يخصى، ويجوز إنزاء حمار على فرس عربية، وإذا خبث الفحل أنزي عليه فحل مثله فرس ليكسره‏.‏

قال مالك ‏(‏ما أحرمه، وما هو بالحسن،‏)‏‏.‏

النوع الحادي عشر‏:‏ قتل الدواب المؤذية

وفي الموطأ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الحيات التي في البيوت إلا ذا الطفيتين والأبتر فإنهما يخطفان البصر ويطرحان ما في بطون النساء، وفي الصحاح‏:‏ إن في المدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتهم منها شيئا فأذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنه شيطان، وفي المنتقى ذلك مخصوص بحيات البيوت، قال مالك وأحب إلي أن يؤخذ بذلك في بيوت المدينة وغيرها؛ لأن لفظ البيوت عام، وقيل‏:‏ للعهد في بيوت المدينة، قال ابن نافع‏:‏ لا تنذر الحيات إلا بالمدينة خاصة‏.‏

وذو الطفيتين‏:‏ ما على ظهره خطان، والأبتر‏:‏ الأفعى، وقال النضر بن شميل‏:‏ هو صنف مقطوع الذنب لا تنظر له حامل إلا ألقت ما في بطنها، فيتحمل أن يقتلن بغير إنذار ويخص العموم بهما، ويحتمل أن مومن الجان لا يتصور بصورتهما، وسرى النهي عن قتل جنان البيوت، قال نفطويه‏:‏ الجنان الحيات؛ لأنها تسجن في البيوت في الشقوق وغيرها، وقال عبد الله بن عباس‏:‏ هي مسخ الجن كما مسخت بنو إسرائيل قرده، قال مالك‏:‏ لا يعجبني قتل النمل والدود، فإن أذى النمل في السقف وقدرتم أن تمسكوا عنها فافعلوا، وإن أضرت ولم تقدروا فواسع، وكذلك الضفدع، ففي مسلم‏:‏ نهى النبي عليه السلام عن قتل النملة والنحلة والصرد وكره قتل القمل والبراغيث في النار لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا يعذب بالنار إلا رب النار، قال ابن دينار‏:‏ ينذر الحيات ثلاثة أيام وإن ظهرت في اليوم مرارا؛ لأنه ظاهر الحديث، قال مالك يجزئ من الإنذار‏:‏ اخرج بالله عليك، واليوم الآخر إن تبدو لنا أو تؤذينا، وقال عليه السلام في الحيات‏:‏ ما سالمناهن منذ عاديناهن، ومن تركهن خوف شرهن فليس منا‏.‏ قال أحمد بن صالح‏:‏ العداوة من حين خرج آدم من الجنة، قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو‏"‏ وقوله عليه السلام‏:‏ فاقتلوه

فإنما هو شيطان، يحتمل أن معناه لا يسلط عليكم بسبب قتله‏.‏

وفي المقدمات‏:‏ لا يجوز قتل الحيات بالمدينة إلا بعد الاستيذان ثلاثا إلا ذا الطفيتين والأبتر، ويستحب أن لا تقتل حيات البيوت في غير المدينة إلا بعد الاستيذان ثلاثا من غير إيجاب لاحتمال اللام للعهد بخلاف حيات المدينة، وأما حيات الصحارى والأودية فتقتل من غير خلاف بغير استئذان لبقائها على الأمر بقتلها بقوله عليه السلام‏:‏ خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم‏:‏ الحدأة، والغراب، والحية، والفأرة، والكلب العقور‏.‏ وتقتل الوزغ حيث ما وجدت لقوله عليه السلام في مسلم‏:‏ من قتلها من المرة الأولى فله مائة حسنة، ومن قتلها في المرة الثانية فله سبعون حسنة وهذه نقص على قاعدة كثرة الأجور بكثرة العمل؛ لأن تأخير قتلها للضربة الثانية دليل التهاون فحض على المبادرة بكثرة الأجر في الأولى، وتقتل الفواسق المتقدم ذكرها، ولا تقتل الأربعة‏:‏ النحلة لنفعها وقلة لحمها، والنملة إلا أن تؤذي وكذلك قتل ما يؤذي من جميع الدواب إلا بالنار، قال ابن يونس قال مالك‏:‏ إنما جاء الاستئذان في المدينة وأراه حسنا في غيرها، وفي الجواهر‏:‏ في إلحاق بيوت غير المدينة ببيوت المدينة في تقديم الاستئذان ففي غير ذي الطيتين والأبتر، ويفعل الاستئذان المشروع في خرجة واحدة، وقيل‏:‏ في كل خرجة دفعة، وقيل‏:‏ ثلاثة أيام، واختار القاضي أبو بكر الأول، وعنه‏:‏ الثاني هو الصحيح، وروى ابن حبيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الاستئذان‏:‏ أنشدكم العهد الذي أخذه عليكم سليمان عليه السلام أن لا تؤذينا أو تظهرن لنا، وعن مالك‏:‏ ياعبد الله إن كنت تؤمن بالله ورسوله وكنت مسلما فلا تؤذينا ولا تسعفنا ولا تروعنا ولا تبدو لنا فإنك إن تبد لنا بعد ثلاث قتلناك، وعنه‏:‏ تقول له‏:‏ اخرج عليك باسم الله أن لا تبدو لنا، وعنه يخرج ثلاث مرات أن لا تبدو لنا ولا تخرج‏.‏

فائدة‏:‏ جعل الله تعالى للجان والملائكة التحول في أي صورة شاءوا، غير أن الملائكة تقصد الصور الحسنة، والجان لا ينضبط حالها بل بحسب أخلاقها وخساستها ونفاستها، وأي صورة فيها الجن صار لهم في تلك الصورة خواصها،

ففي الحية يصير السم وكذلك الكلب، وفي الغنم طيب اللحم وعدم الإيذاء، وفي الحمار الحمل، وكذلك بقية الصور، ولا تزال له تلك الصورة وخواصها حتى يتحول منها فإن بودر لقتله فيها تعذر عليه التحويل، ومع فرط هذه القدرة تقتلهم أسماء الله تعالى ويعجزون عن فتح الباب المغلق وكشف الإناء المغطى إلى غير ذلك مما لطف ببني آدم، ويسري في مجاري جسمه الذي يخرج منها العرب إلى قلبه؛ لأنه ألطف من ماء العرق، بل من مطلق الماء، فيسعه مجرى الماء بطريق الأولى، وهو معنى قوله عليه السلام الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم‏.‏

سؤال‏:‏ إذا صار جبريل عليه السلام في صورة دحية الكلبي أين يذهب بقية جسده وله ستمائة جناح ما بين المشرق والمغرب‏؟‏ فإن قلتم‏:‏ باق، لزم تداخل الأجسام الكثيرة في الأحياز القليلة، وإن قلتم‏:‏ غير باق، فما هذا جبريل بل خلق آخر‏.‏

جوابه‏:‏ جعل لجبريل عليه السلام جواهر أصلية ترد عليها الكثرة وتذهب، كما جعل للإنسان جواهر أصلية يرد عليها السمن والهزال والتحلل واختلاف الغداء فيتبدل جسم الإنسان في عمره مرارا بالتحلل والاغتداء، وجواهره الأصلية التي يشير إليها بقوله‏:‏ أنا، باقية من أول عمره إلى آخره، فكذلك الملك والجان‏.‏

فرع‏:‏

في البيان‏:‏ كره مالك وضع الثوب على النار بخلاف الشمس لما يخشى من حرق الحيوان‏.‏

النوع الثاني عشر‏:‏ السلام

قال عليه السلام في الصحيح‏:‏ لن تدخلوا الجنة حتى تتحابوا وهل أدلكم على ما به تتحابون أفشوا السلام بينكم، وفي الموطأ قال عليه السلام‏:‏ يسلم الراكب على الماشي، وإذا سلم من القوم رجل واحد أجزأ عنهم، وقال عليه السلام‏:‏ إن اليهود إذ سلم عليكم أحدهم إنما يقول‏:‏ السِّلام عليكم، فقل‏:‏ عليك

كلها، في الموطأ، قال صاحب المنتقى‏:‏ قوله عليه السلام يسلم الراكب على الماشي معناه‏:‏ يبدؤه بالسلام ويرد الآخر عليه، وابتداء السلام سنة، ورده واجب، قال البراء بن عازب‏:‏ أمرنا عليه السلام بسبع‏:‏ بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، ونصر الضعيف، وعون المظلوم، وإفشاء السلام، وإبرار القسم، ووجوب الرد من قوله تعالى ‏"‏وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها‏"‏ ولأنه تعين حقه بالبداءة، وصفة السلام أن يقول المبدئ‏:‏ السلام عليكم، ويقول الراد‏:‏ وعليكم السلام أو السلام عليكم كما قيل له، ووقع للشافعية أنه لا يجزئ إلا بالواو على أحد القولين؛ لأنه ليس مجاوبا، بل الآخر مبتدئ، وكره مالك أن يقول‏:‏ سلم الله عليك، وكان الراكب يبدأ؛ لأنه أفضل من الماشي في الدنيا، والأفضل أولى بالتكليف ولأنه أقدر فالخوف منه أشد، فناسب أن يؤمن بالسلام، ولأنه ينفي الكبر عن الراكب، ويسلم المار على الجالس؛ لأنه لقيامه أقوى على البطش أو لأن الجالس لو كلف ذلك مع كثرة المارين لشق عليه، فإذا لم يلزمه إلا الرد لم يشق عليه فإذا استويا في المرور والالتقاء ابتدأ من حقه أقل على الأفضل منه؛ لأن الأدنى مأمور ببر الأعلى، وفي الحديث‏:‏ يسلم الماشي على القاعد، والقليل على الكثير، والصغير على الكبير؛ لأن الكثير طاعة الله منهم أكثر باعتبار مجموع عباداتهم فيتعين برهم على القليل، وبر الكبير على الصغير‏.‏

ولا خلاف أن ابتداء السلام سنة أو فرض كفاية يسقط بواحد، وأن رد السلام فرض على الكفاية، وعن أبي يوسف يلزم الجميع الرد‏.‏

لنا‏:‏ الحديث المتقدم، والقياس على الابتداء، وينتهي السلام للبركة ولا يزاد على الثلاث كلمات‏.‏

قال الشيخ أبو محمد‏:‏ المصافحة حسنة، وعن مالك‏:‏ الناس يفعلونها وأما أنا فلا

أفعلها؛ لأن السلام ينتهي للبركة فلا يزاد عليه قول ولا فعل ممنوع كالمعانقة، وأجازها أنس بن مالك، وكانت في الصحابة رضي الله عنهم، ولم يكره مالك السلام على المتجالة بخلاف الشبابة؛ لأن الهرمة لا فتنة في كلامها، والسلام شعار الإسلام عند لقاء كل مسلم عرفته أم لا، إلا أن يمنع منه مانع، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي السلام خير‏؟‏ قال‏:‏ تطعم الطعام وتقرئ السلام على من عرفت ومن لم تعرف‏.‏

وابتداء الذمي بالسلام غير مشروع، ويرد عليهم بقوله‏:‏ وعليكم، فإن قالوا شرا عاد عليهم، ففي الحديث‏:‏ إذا سلم عليكم أهل الذمة فقولوا‏:‏ وعليكم‏.‏ وفي الحديث‏:‏ لا تبتدئوا اليهود والنصارى بالسلام، فعلى هذا تكون الآية خاصة بالمسلمين في الرد‏.‏

‏[‏قال مالك وإن سلم على الذمي فلا يستقيله لعدم الفائدة‏]‏ وعن عبد الله بن عمر أنه استقاله لئلا يعتقد أن المسلم يعتقد ذلك، ولا يسلم على المبتدعة ولا أهل الأهواء تأديبا لهم، وفي الموطأ كان عبد الله بن عمر يمر بالسوق ولا يمر على سقاط ولا صاحب بيعة ولا مسكين ولا عبد إلا سلم عليه، وسلم عليه رجل فقال‏:‏ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته والغاديات والرائحات، فقال له عبد الله‏:‏ وعليك ألفا، كأنه كره ذلك، قال الباجي‏:‏ قال ابن دينار‏:‏ معناه الطير التي تغدو وتروح، قال الباجي‏:‏ ويحتمل الملائكة الحفظة الغادية الرائحة‏.‏

قلت‏:‏ الذي يناسب الكلام أن الغاديات والرائحات الخيرات والبركات والنعم التي تغدو أول النهار عليه وتروح بعد الزوال؛ لأن الحركات قبل الزوال تسمى غدوا وبعده رواحا، وقول عبد الله‏:‏ وعليك ألفا، قال ابن دينار‏:‏ معناه ألف كسلامك على معنى الكراهية لتعمقه في الزيادة على البركة، ثم كره كونه أيضا تجاوزوا‏.‏

في الموطأ‏:‏ مالك بلغه أنه إذا دخل البيت غير المسكون يقول‏:‏ السلام علينا وعلى

عباد الله الصالحين، قال الباجي‏:‏ إذا لم يكن فيه من يسلم عليه فليسلم على نفسه وعلى عباد الله الصالحين كما يفعله في التشهد، قوله تعالى‏:‏ ‏"‏فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم‏"‏ قال ابن عباس معناه‏:‏ إذا دخلتم بيوتا فقولوا‏:‏ السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وإذا دخل الإنسان منزله ينبغي أن يسلم على أهله‏.‏

قال صاحب القبس‏:‏ يقال‏:‏ السلام معرفا السلام عليكم بالألف واللام ومنكرا سلاما عليكم، فإن نكر فهو مصدر تقديره ألقيت عليك مني سلاما، فألق علي سلاما منك، وإن عرف احتمل أن يكون مصدرا معرفا، واحتمل أن يكون اسم الله تعالى معناه الله رقيب عليك، والسنة تقديم السلام على عليك، ويكره عليكم السلام، ففي أبي داود قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ عليك السلام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم قل سلام عليكم، فإن عليك السلام تحية الميت، يشير عليه السلام إلى ما وردت به اللغة في قولهم‏:‏

عليك سلام الله قيس بن عاصم *** ورحمته ما شاء أن يترحما

وكقول الآخر‏:‏

عليك سلام الله مني وباركت *** يد الله في ذاك الأديم الممزق

فرع‏:‏

في المقدمات‏:‏ يكره تقبيل اليد في السلام، وسئل مالك عن الرجل يقدم من السفر فيقبل غلامه يده، فقال‏:‏ تركه أحسن، قال أبو الوليد‏:‏ ينبغي أن ينهي مولاه عن ذلك؛ لأنه بالاعتقاد صار أخاه في الله، فلعله أفضل منه عند الله، إلا أن يكون غير مسلم فلا ينهاه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله اليهود مختبرين له عن تسع آيات بينات، فلما أخبرهم بها قبلوا يديه ورجليه‏.‏

فرع‏:‏

قال‏:‏ ينبغي في الرد على الذمة أن يقول‏:‏ عليكم بغير واو، كما في الموطأ، فإن تحققت أنهم قالوا‏:‏ السلام عليك وهو الموت، أو السلام بكسر السين وهو الحجارة، فإن شئت قلت‏:‏ وعليك بالواو؛ لأنه يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا، لما جاء في مسلم أن اليهود دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ السلام عليكم، فقال النبي عليه السلام‏:‏ وعليكم، فقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ السلام عليكم ولعنة الله وغضبه يا إخوة القردة والخنازير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها‏:‏ عليك بالحلم وإياك والجهل، فقالت‏:‏ يا رسول الله، أما سمعت ما قالوا، فقال‏:‏ سمعت ما رددت عليهم، فاستجيب لنا فيهم ولم يستجب لهم فينا، وإن لم تتحقق ذلك، قلت‏:‏ وعليك بالواو؛ لأنك إن قلت بغير واو وكان هو قد قال‏:‏ السلام عليكم كنت قد نفيت السلام عن نفسك ورددته عليه‏.‏

فرع‏:‏

قال‏:‏ الاستقالة من الذمي الذي قال مالك‏:‏ لا تفعل أن تقول إنما ابتدأتك بالسلام؛ لأني ظننتك مسلما فلا تظن أني قصدتك؛ لأنه يجدد غبطة الذمي، والسلام من العقود التي تتبع المقاصد‏.‏

فرع‏:‏

قال‏:‏ ومعنى عدم السلام على أهل الأهواء أن منهم من يعتقد أن اعتقاده كفر اتفاقا فلا يسلم عليه؛ ومنهم من لا يختلف أنه ليس بكافر فلا يختلف أنه يسلم عليه؛ ويحتمل قول مالك هذا، ويحتمل أن لا يسلم عليهم أدبا لهم؛ لأن قولهم يؤول إلى الكفر‏.‏

فرع‏:‏

قال صاحب البيان‏:‏ قال مالك‏:‏ إذا مر بقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم سلم عليه، وإن لم يمر به فلا، وسئل عن الغريب يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم كل يوم، فقال‏:‏ ما هذا من الأمر، لكن إذا أراد الخروج، ويكره له أن يكثر المرور به ليسلم عليه لقوله عليه السلام‏:‏ اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، وفي حديث اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏.‏

وصفة السلام، قال مالك‏:‏ يأتي القبر من جهة القبلة حتى إذا دنا سلم وصلى ودعا وانصرف، ويذكر أبا بكر وعمر إن شاء، والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره كالسلام في التشهد في الصلاة‏:‏ السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، والصلاة عليه كالصلاة عليه في الصلاة إلا أنه يقول ذلك بلفظ المخاطب، ومعنى الصلاة عليه الدعاء له، إلا أنه يخص بلفظ الصلاة دون الدعاء، لقول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا‏"‏ فتقول‏:‏ اللهم صل على محمد ولا تقل اللهم ارحم محمدا أو اغفر لمحمد وارض عن محمد، ولا اللهم صل على فلان وتقول اللهم ارحم فلانا ولا تصل على غيره إلا معه‏.‏

فائدة‏:‏ موضعان فيهما الواو وحذفها‏:‏ السلام، وربنا ولك الحمد في الصلاة، فإثباتها يقتضي معطوفا ومعطوفا عليه فتصير الكلام جملتين، ويكون التقدير علي السلام وعليكم السلام، فيصير الراد مسلما على نفسه مرتين، وفي الصلاة يكون التقدير‏:‏ ربنا ولك الحمد ولك الثناء، فيكون مثنيا على الله مرتين، وبغير واو يكون الكلام جملة واحدة فبهذا يترجح إثباتها على حذفها‏.‏

فائدة‏:‏ اختلف العلماء في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها‏"‏ قال ابن عطية في تفسيره‏:‏ قيل‏:‏ أو للتنويع لا للتخيير، وقيل‏:‏ للتخيير، معناه أن الإنسان مخير في أن يرد أحسن أو يقتصر على لفظ المبتدئ إن

كان قد وقف دون البركات، وإلا بطل التخيير لتعين المساواة، وقيل‏:‏ لا بد من الانتهاء إلى لفظ البركات مطلقا، بل الرد وإن تعين بالانتهاء إلى لفظ البركات يتنوع إلى المثل إن كان المبتدئ انتهى للبركات، وإلى الأحسن إن كان المبتدئ اقتصر دون البركات فهذا معنى التخيير والتنويع‏.‏

النوع الثالث عشر‏:‏ الاستئذان

وفي الموطأ سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال‏:‏ يا رسول الله، أستأذن على أمي‏؟‏ فقال‏:‏ نعم، فقال إني معها في البيت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ استأذن عليها، أتحب أن تراها عريانة‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ فاستأذن عليها، قال الباجي‏:‏ الاستئذان على كل بيت فيه أحد واجب، تستأذن ثلاثا فإن أذن لك وإلا رجعت، لقول الله تعالى ‏"‏لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها‏"‏ قال مالك‏:‏ الاستيناس‏:‏ الاستئذان ثلاثا، قال عليه السلام‏:‏ إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع، وقال الباجي‏:‏ لا يزيد على الثلاث إلا أن يعلم أن استئذانه لم يسمع، ويستأذن على أمه وذوات محارمه وكل من لا يحل له النظر إلى عورته، بخلاف الزوجة والأمة‏.‏

وقال ابن نافع‏:‏ لا يزيد على الثلاث وإن ظن أنهم لم يسمعوا اتباعا للحديث، قال‏:‏ ولا بأس إن عرفت أحدا أن تدعوه ليخرج إليك، وصفة الاستئذان أن يقول‏:‏ سلام عليكم أأدخل‏؟‏ أو السلام عليكم لا يزيد عليه، قاله ابن نافع، وقال ابن القاسم‏:‏ الاستيناس أن تسلم ثلاثا، وإن قيل‏:‏ لك من هذا‏؟‏ فسم نفسك بما تعرف به ولا تقول‏:‏ أنا؛ لأن جابر عبد الله استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ من هذا‏؟‏ قال، فقال‏:‏ أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنا‏؟‏‏!‏ على معنى الإنكار، وإن سمى نفسه أولا في الاستئذان فحسن؛ لأن أبا موسى جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما

فقال‏:‏ السلام عليكم هذا أبو موسى، فلم يأذن، فقال‏:‏ السلام عليكم هذا الأشعري، ثم انصرف، فقال ردوه علي، فقال له‏:‏ ما ردك كنا في شغل‏.‏

في البيان‏:‏ قال مالك‏:‏ الاستيناس التسليم، وإن أذن له من باب الدار فليس له أن يستأذن إذا وصل باب البيت، قال صاحب البيان‏:‏ وتغيير الاستيناس بالتسليم بعيد، لقول الله تعالى‏:‏ ‏"‏حتى تستأنسوا وتسلموا‏"‏ فغاير بينهما وعن مالك‏:‏ الاستيناس الاستئذان، وعليه أكثر المفسرين، وقيل‏:‏ حتى تونسوا أهل البيت بالتنحنح والتنخم ونحوه حتى يعلموا إرادتكم الدخول، وقال الفراء‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير تقديره‏:‏ حتى تسلموا وتستأذنوا، وهو أن تقول السلام عليكم أأدخل‏؟‏؛ لأن ابن مسعود كان يقرؤها‏:‏ حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا‏.‏ واختلف في استئذان أبي موسى على عمر رضي الله عنهما فروي‏:‏ السلام عليكم أأدخل‏؟‏ كما تقدم، وروى أنه قال‏:‏ يستأذن أبو موسى، يستأذن عبد الله بن قيس‏.‏

قال صاحب القبس‏:‏ الاستئذان استفعال من الإذن، وعمه الله في كل موضع وجعله أصلا في كل رقبة وهيبة لكل منزل، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة‏:‏ فآتي فاستأذن على ربي في داره فيؤذن لي، ووقته مأخوذ من قوله تعالى ‏(‏ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم‏)‏ الآية، والآذن هو من كان من أهل المنزل وإن كان الصبي الصغير الذي يعقل الحجبة ويفهم الإذن‏.‏

النوع الرابع عشر‏:‏ الملاقاة وما يتعلق بها من المصافحة والمعانقة ونحو ذلك

وفي الموطأ قال عليه السلام‏:‏ تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تتحابوا وتذهب الشحناء‏.‏ وفي غيره‏:‏ إذا تلاقى الرجلان فتصافحا تحاثت ذنوبهما وكان أقربهما إلى الله أكثرهما بشرا، قال الباجي‏:‏ يحتمل أن يريد المصافحة بالأيدي،

وقال علقمة‏:‏ تمام التحية المصافحة، وجوز مالك المصافحة، ودخل عليه سفيان ابن عيينة فصافحه وقال‏:‏ لولا أن المعانقة بدعة لعانقتك، فقال سفيان‏:‏ عانق من هو خير مني ومنك النبي صلى الله عليه وسلم لجعفر حين قدم من أرض الحبشة، قال مالك‏:‏ ذلك خاص، قال سفيان‏:‏ بل عام ما يخص جعفرا يخصنا وما يعمه يعمنا إذا كنا صالحين، أفتأذن لي أن أحدث في مجلسك‏؟‏ قال‏:‏ نعم يا أبا محمد، قال حدثني عبد الله بن طاوس عن أبيه عن عبد الله بن عباس‏:‏ لما قدم جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة اعتنقه النبي صلى الله عليه وسلم وقبل بين عينيه وقال‏:‏ جعفر أشبه الناس بنا خلقا وخلقا، يا جعفر، ما أعجب ما رأيت بأرض الحبشة‏؟‏ قال‏:‏ يا رسول الله، بينا أنا أمشي في بعض أزقتها إذا سوداء على رأسها مكيل بر، فصدمها رجل على دابته فوضع مكيلها وانتشر برها، فأقبلت تجمعه من التراب وهي تقول‏:‏ ويل للظالم من ديان يوم القيامة، ويل للظالم من المظلوم يوم القيامة، فقال النبي عليه السلام‏:‏ لا يقدس الله أمة لا تأخذ لضعيفها من قويها حقه غير مقنع‏.‏ ثم قال سفيان‏:‏ قدمت لأصلي في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وأبشرك برؤيا رأيتها نامت عينك خيرا إن شاء الله، قال سفيان‏:‏ رأيت كأن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم انشق فأقبل الناس يهرعون من كل جانب والنبي صلى الله عليه وسلم يرد بأحسن رد، قال سفيان‏:‏ فأتي بك والله أعرفك في منامي كما أعرفك في يقظتي، فسلمت عليه فرد عليك السلام، ثم رمى في حجرك بخاتم نزعه من أصابعه، فاتق الله فيما أعطاك عليه السلام، فبكى مالك بكاء شديدا، قال سفيان‏:‏ السلام عليكم، قال‏:‏ خارج الساعة‏؟‏ قال‏:‏ نعم، فودعه مالك وخرج‏.‏

وعن مالك كراهة المصافحة والمعانقة، وعلى هذه الرواية المصافحة التي في الحديث صفح بعضهم عن بعض من العفو، قال‏:‏ وهو أشبه؛ لأنه يذهب بالغل غالبا، واحتج مالك على منع المصافحة باليد بقوله تعالى‏:‏ ‏"‏إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام‏"‏ ولم يذكر مصافحة، ولأن السلام ينتهى فيه

للبركات، قال قتادة‏:‏ قلت لأنس‏:‏ أكانت المصافحة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال نعم ولأنها تمام المودة، فناسب أيضا إذهاب الغل، وفي القبس قال عليه السلام‏:‏ ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما، قال صاحب المقدمات‏:‏ المصافحة مستحبة وهو المشهور، وإنما كره المعانقة؛ لأنه لم يرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعلها إلا مع جعفر، ولم يصحبها العمل من الصحابة بعده عليه السلام، ولأن النفوس تنفر عنها؛ لأنها لا تكون إلا لوداع أو من فرط ألم الشوق، أو مع الأهل، والمصافحة فيها العمل‏.‏

ويكره تقبيل اليد في السلام لاحتمال أن يكون أفضل منه عند الله، وسألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تسع آيات بينات فقال لهم‏:‏ لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تمشوا ببريء إلى السلطان ليقتله، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تولوا الفرار يوم الزحف، وعليكم خاصة اليهود أن لا تعدوا في السبت، فقاموا فقبلوا يده ورجليه وقالوا نشهد أنك نبي، قال‏:‏ فما يمنعكم أن تتبعوني، قالوا‏:‏ إن داود دعا ربه أن لا يزال في ذريته نبي، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا اليهود، قال الترمذي‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏

قال صاحب البيان‏:‏ ففعل اليهود ذلك مع المسلم لا يكره، وكان عبد الله بن عمر إذا قدم من سفره قبل سالما وقال‏:‏ شيخ يقبل شيخا، إعلاما أن هذا جائز على هذا الوجه لا على وجه مكروه‏.‏

قالت عائشة رضي الله عنها وقدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء، فأتاه فقرع الباب، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عريانا يجر ثوبه، والله ما رأيته عريانا قبله ولا بعده، فاعتنقه وقبله، قال الترمذي حيث حسن غريب، وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفرا حين قدم من الحبشة، وأما القبلة في الفم للرجل من الرجل فلا رخصة فيها بوجه‏.‏

قال ابن يونس قال مالك‏:‏ إذا قدم من سفره فلا بأس أن تقبله ابنته وأخته،

ولا بأس أن يقبل خد ابنته، وكره أن تقبله ختنته ومعتقته وإن كانت متجالة، وأجاز مالك المعانقة في رسالته لهارون الرشيد أن يعانق قريبه إذا قدم من السفر، وقيل‏:‏ هذه الرسالة لم تثبت لمالك‏.‏

قال مالك‏:‏ ويقال من تعظيم الله تعالى تعظيم ذي الشيبة المسلم، فالرجل يقوم للرجل له الفضل والفقه فيجلسه في مجلسه قال يكره ذلك، ولا بأس أن يوسع له، قيل‏:‏ فالمرأة تلقى زوجها تبالغ في بره وتنزع ثيابه ونعليه وتقف حتى يجلس، قال‏:‏ ذلك حسن غير قيامها حتى يجلس، وهذا فعل الجبابرة، وربما كان الناس ينتظرونه فإذا طلع قاموا، ليس هذا من فعل الإسلام، وفعل ذلك لعمر بن عبد العزيز أول ما ولي حين خرج إلى الناس فأنكره وقال‏:‏ إن تقوموا نقم، وإن تقعدوا نقعد، وإنما يقوم الناس لرب العالمين، وقال عليه السلام‏:‏ من أحب أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار، قيل له‏:‏ فالرجل يقبل يد الرجل أو رأسه، قال هو من عمل الأعاجم لا من عمل الناس، وأما تقبيل رأس ابنه فخفيف، ولا يقبل خد ابنه أو عمه، قال‏:‏ لم يفعله الماضون‏.‏

قال صاحب البيان‏:‏ القيام أربعة أقسام‏:‏ حرام إذا فعل تعظيما لمن يحبه تجبرا على العالمين؛ ومكروه إذا فعل تعظيما لمن لا يحبه كذلك؛ لأنه يشبه فعل الجبابرة، ولتوقع فساد قلب المقوم له؛ ومباح إذا فعل إجلالا لمن لا يريده؛ ومندوب للقادم من السفر فرحا بقدومه ليسلم عليه أو يشكر إحسانه، أو للقادم المصاب ليعزيه في مصيبته، وبهذا يجمع بين قوله عليه السلام من أحب أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار، وبين قيامه عليه السلام لعكرمة بن أبي جهل لما قدم من اليمن فرحا بقدومه، وقيام طلحة بن عبيد الله لكعب بن مالك ليهنئه بتوبة الله عليه بحضوره عليه السلام ولم ينكر عليه ولا قام من مجلسه، فكان كعب يقول‏:‏ لا أنساها لطلحة‏.‏

وكان عليه السلام يكره أن يقام له، فكانوا إذا رأوه لم يقوموا له لعلمهم

بكراهية لذلك، وإذا قام إلى بيته لم يزالوا قياما حتى يدخل بيته، لما يلزمهم من تعظيمه قبل علمهم بكراهيته لذلك، وقال عليه السلام للأنصار‏:‏ قوموا لسيدكم، قيل‏:‏ تعظيما له وهو لا يحب ذلك، وقيل‏:‏ ليعينوه على النزول على الدابة‏.‏

تنبيه‏:‏ حضرت عند الشيخ عز الدين بن عبد السلام من أعيان العلماء الشافعية الربانيين فحضرته فتيا‏:‏ ما تقول في القيام الذي أحدثه الناس في هذا الزمان هل يحرم أم لا‏؟‏ فكتب رحمه الله‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا، وترك القيام في هذا الوقت يفضي للمقاطعة والمدابرة، فلو قيل بوجوبه ما كان بعيدا، فقرأتها بعد كتابته رحمه الله، والناس تحدث لهم أحكام بقدر ما يحدثون من السياسات والمعاملات والاحتياطات، وهي على القوانين الأولى غير أن الأسباب تجددت، ولم يكن في السلف، وقد بسطت من هذا طرفا في ولاية المظالم في كتاب الأقضية‏.‏

ويلحق بالقيام النعوت المعتادة، وأنواع المكاتبات على ما قرره الناس في المخاطبات، وهذا النوع كثير لم تكن أسبابه في السلف، غير أنه قد تقرر في قاعدة الشرع اعتباره هذه الأسباب كما قال الشيخ رضي الله عنه، فإذا وجدت وجب اعتبارها، وفي هذا التبيه كفاية‏.‏

النوع الخامس عشر‏:‏ تشميت العاطش

وفي الموطأ قال عليه السلام‏:‏ إن عطس فشمته، ثم إن عطس فشمته، ثم إن عطس فقل‏:‏ إنك مضنوك، قال الراوي بعد الثلاثة أو الأربعة، قال الباجي‏:‏ يقال بالشين المعجمة والمهملة، فبالشين قال ثعلب‏:‏ إبعاد الشماتة، والتسميت إثبات السمت الحسن له، وقيل‏:‏ التشميت بالشين المعجمة من الشوامت وهي الأعضاء، أي أبقى الله شوامتك على حالها، وسببه أن العطاس حركة من الدماغ لدفع ما يرد عليه من المؤذي، كما أن السعال حركة الصدر لدفع ما يؤذيه، والفواق حركة المعدة لدفع ما يؤذيها، وحركة الدماغ في العطاس أشد؛ لأنه موضع الحواس ومبدأ الأعصاب، وتستعين بحركة الصدر وغيره، فتكون حركته

عظيمة، فربما انصبت مادة خلطته لبعض الحواب أو بعض الأعضاء فحصلت لقوة أو فساد فيشمت به أعداؤه لتغير سمته، فإذا دعي له بالرحمة اندفعت الشماتة من الأعداء، ويحفظ السمت بفضل الله تعالى‏.‏

وكانت الجاهلية تتطير بالعطاس إلى ثلاث مرات وتجعلها شؤما، فأعلم صاحب الشرع أنها رحمة من الله تعالى، واقتصر بقولنا يرحمك الله على الثلاثة التي كانت الجاهلية تتشاءم بها إثباتا للضد، ولهذا السر قيل‏:‏ له في الرابعة إنه مضنوك أي مزكوم، ورد تفسره في الحديث بذلك، وخصص الأفعال بمكان التطير إذ هو موضع الحاجة للمضادة وإبطال التطير‏.‏

قال الباجي‏:‏ وحق التحميد إنما يثبت لمن حمد الله تعالى، قال مالك إذا لم يسمعه حمد الله تعالى فلا يشمته إلا أن يكون في حلقة كبيرة ‏[‏ورأى الذين يلونه يشمتونه فيشمته‏]‏ وفي الصحيح عطس رجلان عند رسول الله فشمت أحدهما ولم يشمت الآخر، فقيل‏:‏ له، قال‏:‏ هذا حمد الله وهذا لم يحمده، وينبغي للعاطس أن يسمع من يليه التحميد، وإن عطس في الصلاة فلا يحمد الله إلا في نفسه لشغله بصلاته عن الذكر، ولا يشمت أيضا غيره، وعن سحنون‏:‏ ولا في نفسه، وعن مالك‏:‏ يحمد الله ويصلي على محمد صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يعجبه، ويجزئ في التشميت واحد من الجماعة كالسلام، وقال ابن مزين‏:‏ هو بخلاف السلام، ويشمت الجميع لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذا عطس فحمد الله فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته، ولأنه دعاء والاستكثار منه حسن، والسلام إظهار لشعائر الإسلام كالأذان يكفي واحد منهم‏.‏

والتشميت على ظاهر مذهب مالك واجب على الكفاية، وقال القاضي أبو محمد مندوب كابتداء السلام، ووجه الأول الأول أن ظاهر أمره عليه السلام

فشمتوه الوجوب، وعن مالك يبلغ بالتشميت ثلاثا ويقول بعد التشميت‏:‏ يرحمنا الله وإياكم ويغفر لنا ولكم، كان عبد الله بن عمر يفعله‏.‏

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقل‏:‏ يهديكم ويصلح بالكم، وإن شاء قال يغفر لنا ولكم، وهو مذهب الشافعي، ومنع أبو حنيفة أن يقول‏:‏ يهديكم الله ويصلح بالكم؛ لأن الخوارج كانت تقوله فلا يستغفرون للناس، ولأنه عليه السلام إنما كان يقوله لليهود‏.‏

وفي القبس‏:‏ قال عليه السلام‏:‏ العطاس من الله والتثاؤب من الشيطان‏.‏ لأن التثاؤب إنما يكون عن الكسل فأضيف للشيطان على سبيل الأدب، كما قال الخليل عليه السلام‏:‏ ‏"‏والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين‏"‏ وعنه عليه السلام‏:‏ فإذا عطس فليحمد الله وليخمر وجهه فإنه يرد الله شوامته على حالها، كما إذا تثاءب فليجعل يده على فيه ولا يفتحها للشيطان فإنه يضحك به، ولا يصرف وجهه يمينا ولا شمالا فإن بعضهم صرفه فبقي بقية عمره كذلك‏.‏

قال صاحب البيان‏:‏ اختار عبد الوهاب يهديكم الله ويصلح بالكم على يغفر الله لنا ولكم؛ لأن المغفرة لا تكون إلا مع الذنوب، والهداية لا تتوقف على الذنب، قال‏:‏ وعندي المغفرة أولى؛ لأنه لا ينفك أحد عن ذنب، والحاجة إلى المغفرة أكثر، فإن جمع بينهما كان أحسن، إلا في ‏(‏الكافر‏)‏ الذي إذا عطس وحمد الله تعالى فلا يقال له‏:‏ يرحمك الله بل يهديك الله ويصلح بالك؛ لأن الكافر لا يغفر له حتى يؤمن‏.‏

النوع السادس عشر‏:‏ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن أن يبعث الله عقابا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم، قال الترمذي حديث

حسن، وفي الجواهر‏:‏ إنما يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر بثلاثة شروط‏:‏

الأول‏:‏ أن يعلم ما يأمر به وينهى عنه‏.‏

الثاني‏:‏ أن يأمن أن يؤدي إنكاره المنكر إلى منكر أكثر منه مثل أن ينهى عن شرب الخمر فيؤول نهيه عنه إلى قتل النفس ونحوه‏.‏

الثالث‏:‏ أن يغلب على ظنه أن إنكاره مزيل له، وأن أمره بالمعروف مؤثر فيه ونافع‏.‏

وفقد أحد الشرطين الأولين يمنع الجواز، وفقد الثالث يسقط الوجوب ويبقى الجواز والندب‏.‏

ثم مراتب الإنكار ثلاث‏:‏ أقواها أن يغير بيده، وإن لم يقدر على ذلك انتقل للمرتبة الثانية فيغير بلسانه إن استطاع، وليكن برفق ولين ووعظ إن احتاج إليه، لقوله عليه السلام‏:‏ من أمر منكم بمعروف فليكن أمره بالمعروف، وقال الله تعالى‏:‏ ‏"‏فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى‏"‏ فإن لم يقدر انتقل للرتبة الثالثة وهي الإنكار بالقلب وهي أضعفها، قال عليه السلام‏:‏ من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان أخرجه أبو داود، وفي الصحاح نحوه، وفيه‏:‏ وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل‏.‏

سؤال‏:‏ قد نجد أعظم الناس إيمانا يعجز عن الإنكار، وعجزه لا ينافي تعظيمه لله تعالى وإيمانه به؛ لأن الشرع منعه بسبب عجزه عن الإنكار لكونه يؤدي إلى مفسدة أعظم، أو نقول‏:‏ لا يلزم من العجز عن القربة نقص الإيمان بها كالصلاة، فما معنى قوله عليه السلام ذلك أضعف الإيمان‏؟‏

الجواب المراد بالإيمان هنا الإيمان الفعلي الوارد في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وما كان الله ليضيع إيمانكم ‏"‏، أي‏:‏ صلاتكم للبيت المقدس، وقال عليه السلام‏:‏ الإيمان

سبع وخمسون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق‏.‏ وأقوى الإيمان الفعلي إزالة اليد، ثم القول؛ لأنه قد يؤثر في الإزالة، وإنكار القلب لا يؤثر في إزالة فهو أضعفها، أو يلاحظ عدم تأثيره في الإزالة فيبقى مطلقا وهو الرواية الأخرى‏.‏

قال محمد بن يونس‏:‏ قال مالك‏:‏ ضرب محمد بن المنكدر وأصحابه في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وضرب ربيعة وحلق رأسه ولحيته في شيء غير هذا، وضرب ابن المسيب وأدخل في تبان من شعر، وقال عمر بن عبد العزيز‏:‏ ما أغبط رجالا لم يصبهم في هذا الأمر أذى، ودخل أبو بكر بن عبد الرحمن وعكرمة بن عبد الرحمن على ابن المسيب في السجن وقد ضرب ضربا شديدا، فقالا له‏:‏ اتق الله فإنا نخاف على دمك، فقال‏:‏ اخرجا عني أتراني ألعب بديني كما لعبتما بدينكما، وقال ابن مسعود‏:‏ تكلموا بالحق تعرفوا به، واعلموا به تكونوا من أهله‏.‏

قال مالك‏:‏ ينبغي للناس أن يأمروا بطاعة الله فإن عصوا كانوا شهودا على من عصاه، ويأمر والديه بالمعروف وينهاهما عن المنكر ويخفض لهما جناح الذل من الرحمة، قال سعيد بن جبير‏:‏ لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد ولا نهى عن منكر‏.‏

تنبيه‏:‏ قال بعض العلماء لا يشترط في النهي عن المنكر أن يكون الملابس له عاصيا، بل يشترط أن يكون ملابسا لمفسدة واجبة الدفع، أو تاركا لمصلحة واجبة الحصول، وله أمثلة‏:‏ أحدها‏:‏ أمر الجاهل بمعروف لا يعرف إيجابه، أو نهيه عن منكر لا يعرف تحريمه، وثانيها‏:‏ قتل البغاة، وثالثها‏:‏ ضرب الصبيان على ترك الصلاة، ورابعها‏:‏ قتل المجانين والصبيان إذا صالوا على الدماء والأبضاع ولم يمكن دفعهم إلا بقتلهم، وخامسها‏:‏ أن يوكل وكيلا بالقصاص ثم يعفو ويخبر الوكيل فاسق بالعفو أو متهم فلا يصدقه فأراد القصاص، فللفاسق أن يدفعه بالقتل إذا لم يمكن إلا به دفعا لمفسدة القتل بغير حق، وسادسها‏:‏ وكله في بيع جارية

فباعها فأراد الموكل أن يطأها ظنا منه أن الوكيل لم يبعها فأخبره المشتري أنه اشتراها فلم يصدقه، فللمشتري دفعه ولو بالقتل، وسابعها‏:‏ ضرب البهائم للتعليم والرياضة ‏(‏دفعا‏)‏ لمفسدة الشراس والجماح‏.‏

فرع‏:‏

قال العلماء‏:‏ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب إجماعا على الفور، فمن أمكنه أن يأمر بمعروف وجب عليه الجمع، مثاله‏:‏ أن يرى جماعة تركوا الصلاة يأمرهم بكلمة واحدة قوموا للصلاة‏.‏

فرع‏:‏

من أتى شيئا مختلفا فيه وهو يعتقد تحريمه أنكر عليه؛ لانتهاكه الحرمة، وإن اعتقد بحليته لم ينكر عليه إلا أن يكون مدرك الحل ضعيفا ينقض الحكم بمثله لبطلانه في الشرع، كواطئ الجارية بالإباحة معتقدا لمذهب عطاء، وشارب النبيذ معتقدا مذهب أبي حنيفة، وإن لم يكن معتقدا تحريما ولا تحليلا أرشد لاجتنابه من غير ترجيح‏.‏

النوع السابع عشر‏:‏ مداواة الأمراض والتمريض والرفاد نحوه

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذا مرض العبد بعث الله ملكين فقال‏:‏ انظروا ماذا يقول لعواده، فإن هو إذا جاؤه حمد الله وأثنى عليه رفعا ذلك إلى الله عز وجل وهو أعلم فيقول‏:‏ لعبدي علي إن توفيته أن أدخله الجنة، وإن أنا شفيته أبدلته لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه، وأن أكفر عنه سيآته‏.‏ وفيه، قال عليه السلام‏:‏ لا يصيب المؤمن مصيبة حتى الشوكة وإن صغرت إلا أوجر بها أو كفر بها من خطاياه‏.‏ شك الراوي، وقال عليه السلام‏:‏ من يرد الله به خيرا يصب منه‏.‏

قال عثمان بن أبي العاصي‏:‏ أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبي وجع كاد يهلكني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ امسحه بيمينك سبع مرات وقل‏:‏ أعوذ بعزة الله وقدرته من

شر ما أجد، ففعلت ذلك فأذهب الله عز وجل عني ما كان بي، فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم‏.‏

وكان صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ فلما اشتد وجعه كنت أنا أقرأ عليه وأمسح عليه بيمينه رجاء بركتها‏.‏

وأصاب رجلا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم جرح فاحتقن الدم في الجرح، فدعا برجلين من بني أنمار فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أيكما أطب، فقالا‏:‏ أوفي الطب خير‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل الدواء الذي أنزل الداء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء، وقال عليه السلام‏:‏ إذا عاد الرجل المريض خاض للرحمة، فإذا قعد عنده قر فيها، وكلها في الموطأ، قال الباجي‏:‏ في الصحيح أن ابن عباس قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنك لتوعك وعكا شديدا، فقال أجل كما يوعك رجلان منكم، لم يرد به عليه السلام التشكي، وبه يجمع بينه وبين ما تقدم في الحديث الأول‏.‏

وخص الله تعالى عدد السبع بالدواء، قال عليه السلام ما تقدم وقال‏:‏ هريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلي أعهد إلى الناس‏.‏

قال ابن دينار‏:‏ النفث شبه البصق ولا يلقي شيئا كما ينفث آكل الزبيب بل يسيرا من الريق، والثفل إلقاء الريق، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفث على يديه، ثم يمسح بهما وجهه، وعنه عليه السلام إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بـ ‏"‏قل هو الله أحد‏"‏ والمعوذتين ويمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده‏.‏

وكره مالك الذي يرقي بالحديدة والملح والذي يكتب ويعقد فيما يعلق عقدا، والذي يكتب خاتم سليمان، وكان العقد عنده أشد كراهة لمشابهته للسحر، ولقوله تعالى ‏"‏ومن شر النفاثات في العقد‏"‏ وكانت عائشة رضي الله عنها كثيرة الاسترقاء حتى ترقي البثرة الصغيرة‏.‏

قال مالك‏:‏ ينهى الإمام الأطباء عن الدواء إلا طبيبا معروفا، ولا يشرب من دوائهم إلا ما يعرف، وقوله عليه السلام‏:‏ أنزل الدواء أي أعلمهم إياه وأذن لهم فيه، وعنه عليه السلام‏:‏ ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء‏.‏ وهو يدل على جواز المعالجة، ومن المعالجة الجائزة حمية المريض، وحمى عمر بن الخطاب رضي الله عنه مريضا حتى كان يمص النوى من الجوع، وكان الصحابة رضي الله عنهم يكتوون من الذبحة واللقوة وذات الجنب، وهو يعلم بهم، وقال عليه السلام‏:‏ الشفاء في ثلاث‏:‏ في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار، وأنا أنهى أمتي عن الكي، وهو نهي كراهة، وأمر بالأخذ بالأفضل وهو التوكل على الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب، ثم قال‏:‏ هم الذين لا يتطيرون ولا يسترقون ولا يكتئون وعلى ربهم يتوكلون‏.‏ قال الباجي‏:‏ وإنما كان التوكل من التداوي لعدم تيقن البرء، قال غيره‏:‏ لا يمكن أن يقال التوكل أفضل من الكي والمداوة والرقا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال يرقي نفسه إلى آخر مرض موته، وكوى وأمر بالكي، ولا يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الأفضل طول عمره، ومتابعة عائشة رضي الله عنها على ذلك يأبى الأفضلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أكثر الناس استعمالا للطب، وقال في الرطب والقثاء يذهب حر هذه برد هذه، وكان يكثر الرياضة واستعمال الطيب وهو من أعظم أنواع الطب، وروى ابن ماجه أنه كان يشرب كل يوم قدحا من ماء الغسل، وهو يجلو المعدة والكبد والكلى وينقي الأعضاء الباطنة، ويثير الحرارة، وكان يتداوى حتى يتداوى بالخواص التي يتوهم نفعها، في الحديث الوارد في سبع قرب ونحوه، وهذا في غاية الإعراض لما قاله الباجي، بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد المتوكلين، وكان يتوكل على الله ويطلب فضله في أسبابه الجارية بها عادته، وقد تقدم أن هذا هو الجامع بين الأدب والتوكل، وهي طريقة الأنبياء عليهم السلام

والصديقين وخواص المؤمنين، بل هذا الحديث محمول على أن هذه العلاجات من الكي وغيرها تارة تستعمل مع تعين أسبابها المقتضية لاستعمالها، وتارة مع الشك فيها مع القطع بعدم الحاجة إليها كما يفعل الترك للكي لتهيج الطبيعة، فهذه الحاجة الأخيرة هي المرادة بالحديث؛ لأنه إيلام وعيب حينئذ فحسن المدح بتركه، أما الحالة الأولى فلا، وهذا طريق صالح للجمع بين فعله عليه السلام وفعل أصحابه وخواصه وبين هذا الحديث، لاسيما والحديث وإن كان عاما في نفي المداوة، لكنه مطلق في الأحوال، والمطلق يتأدى بصورة فلا تعارض حينئذ، نقل صاحب القبس فيه ثلاثة أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ هذا، والثاني‏:‏ لا يسترقون بالتمائم كما كانت العرب تفعله، والثالث‏:‏ لا يسترقون عند الناس‏.‏

تنبيه‏:‏ في الصحيح‏:‏ جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أ‏:‏ خي استطلق بطنه، فقال اسقه عسلا، فسقاه فقال‏:‏ إني سقيته فلم يزده إلا استطلاقا، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ صدق الله وكذب بطن أخيك، كيف يتصور كذب البطن‏؟‏ وكيف يوصف العسل بقطع الإسهال مع أنه مسهل‏؟‏ والجواب عن الأول‏:‏ أن الله تعالى قد جعل شفاه في العسل ولكن بعد تكرره إلى غاية يحجب، فلما لم يكرره ولم يحصل البرء صدق الله في كونه جعل الشفاء فيه، وإنما كان المانع من جهة المناولة، وكذب البطن؛ لأنه بظاهر حاله يقول إن هذا ليس شفائي وهو شفاء له، وإنما المناولة لم تقع على الوجه الائق، وعن الثاني‏:‏ أن الإسهال قد يكون عن سدة كما تقرر في علم الطب، فمداواتها بما يجلوها ويحللها، كما يداوى في الزحير الكاذب بالمسهلات، وبالمسخنات المفتحة الحميات الكائنة عن السدد، وهو كثير عند الأطباء المداواة بالمثل، وإنما الغالب المداواة بالضد، فلو كرر؛ لانحلت السدة وانقطع الإسهال‏.‏

فرع‏:‏

قال الباجي‏:‏ تغسل القرحة بالبول والخمر إذا غسل بعد ذلك، قال مالك‏:‏ إني لأكره الخمر في الدواء وغيره، وإنما يدخل هذه الأشياء من يريد الطعن في الدين، والبول عنده أخف، ولا يشرب بول الإنسان ليتداوى به؛ لأنه نجاسة،

ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ إن الله لا يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها‏.‏ أي لم يشرع، كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة‏"‏ أي‏:‏ لم يشرع، وإلا فجعل الخلق موجود، ولا بأس بشرب أبوال الأنعام الثمانية، قيل له‏:‏ كل ما يؤكل لحمه، قال‏:‏ لم أقل إلا الأنعام الثمانية، ولا خير في أبوال الأتن، قال مالك‏:‏ ولا بأس بالكي من اللقوة‏.‏

مسألة

في الصحاح قال عليه السلام‏:‏ إن الحمى من فيح جهنم فأبردها بالماء، وفي الموطأ‏:‏ كانت أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما إذا أوتيت بأمرأة قد حمت صبت الماء بينها وبين جيبها، قال العلماء هذا الحديث يحمل على معنيين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون المراد به شرب الماء، فقد ذكر فضلاء الأطباء أن الماء العذب البارد من أحسن الأشربة البسيطة، وأن شربه يمنع عادية الحميات الحادة، ويسكن لهب الصفراء وحر العفونة، ويرطب ما جف من رطوبة الجسد، وييبس الصفراء وحرارة الحميات، وهو سريع الانحدار خفيف على العليل، وثانيهما‏:‏ أن يحمل على الحمى الحادثة عن سوء مزاج حار عن مادة، فإذا حم بالماء من خارج برد مزاجه واعتدل فتزول الحمى، قال في القبس‏:‏ أو يحمل على غسل الأطراف فقط فإنه ينعش القوة وينهض النفس من غير استصحاب، وأما الحمى الكائنة عن المواد العفينة متى حم صاحبها استصحب الجسد واحتقنت الأبخرة في باطن الجسد فكان ذلك سببا لتهييج المواد وإحداث الحميات وربما قتل، وقد وقع كثيرا للمحمومين حموا فماتوا، وكذلك كل حديث ورد في الطب إنما يحمل على ما يليق به من الأمراض والأحوال‏.‏

مسألة

قال الباجي قال مطرف‏:‏ إن كان المرضى كالمجذومين ونحوهم مرضهم يسير لا يخرجون من القرى والحواضر، وإن كثر اتخذوا؛ لأنفسهم موضعا كما صنع مرضى مكة عند التنعيم منزلتهم، ولا يمنعون من الأسواق لحاجاتهم، والتطوف للمسألة إذا لم يرزقوا من بيت المال، وقال أصبغ‏:‏ يخرجون من الحواضر، وإذا أجري عليهم من بيت المال ما يكفيهم ألزموا بيوتهم أو التنحي إن شاءوا، قال ابن حبيب‏:‏ التنحي إذا كثروا أعجب إلي، وهو الذي عليه الناس، ويمنع المجذوم من المسجد ومن الجمعة‏.‏

مسألة

قال صاحب القبس‏:‏ التطبب قبل نزول الداء مكروه عند أصحابنا، وقال بعض العلماء‏:‏ هو جائز لحفظ الصحة صونا للجسم على العبادة، قال‏:‏ وأرى إن خشي نزوله جاز‏.‏

مسألة

قال‏:‏ عياة المريض مؤكد طلبها، لقوله عليه السلام‏:‏ عائد المريض في غرفة الجنة‏.‏ ولما فيها من التأنيس والخير والألفة، وقال عليه السلام‏:‏ من عاد مريضا لم يحضر أجله فقال سبع مرات‏:‏ أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يشفيك عوفي من ذلك المرض، وربما وجده محتاجا لشيء فيسد خلته‏.‏

قال‏:‏ التمريض فرض كفاية صونا للمريض عن الضياع، فأولى الناس القريب، ثم الصاحب، ثم الجار، ثم سائر الناس‏.‏

مسألة

قال صاحب البيان‏:‏ كره مالك الرقى بالحديد وغيره؛ لأن الاستشفاء إنما يكون بكلام الله تعالى وأسمائه الحسنى، واستخف أن ينجم الشيء ويجعل عليه حديده، لما جعل الله تعالى في النجوم من المنفعة بالاهتداء وغيره، ولم ير بأسا بالخيط يربط في الأصبع للتذكار، وقد ورد فيه حديث، وجوز تعليق الخرزة من الحمرة، وأجاز مرة تعليق التمائم من القرآن وكرهها مرة في الصحة مخافة العين أو لما يتقى من المرض، وأجازها مرة بكل حال، وفي الحديث من علق شيئا وكل إليه، ومن علق تميمة فلا أتم الله له ومن علق ودعة فلا أودع الله له، ومنهم من أجازها في المرض دون الصحة، لقول عائشة رضي الله عنها‏:‏ ما علق بعد نزول البلاء فليس بتميمة، وأما الرقي فمندوب إليه مطلقا للسنة، قال في المقدمات‏:‏ وأما التمائم بالعبراني وما لا يعرف فيحرم للمريض والصحيح لما يخشى أن يكون فيها من الكفر‏.‏

مسألة

قال ابن أبي زيد‏:‏ سئل مالك عن من به لمم فقيل له‏:‏ إن شئت قتلنا صاحبك، فقال‏:‏ لا علم لي بهذا وهذا من الطب، وكان معدن لا يزال يصاب فيه بالجن فأمرهم زيد بن أسلم أن يؤذن كل واحد منهم ويرفعون به أصواتهم ففعلوا فانقطع عنهم‏.‏